٣١‏/٠٧‏/٢٠٠٨

محمد عبد الجليل الفهيم رجل أعمال يتذكر زمن الصبر




يعود الفهيم بذاكرته الى الطفولة: (الجو حار وخانق تملأه العواصف. كان الفقر والحرمان زادنا والمياه المالحة تزيد من عطشنا وشقائنا. كان قصر الحاكم (المغفور له بإذن الله الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان حاكم أبوظبي آنذاك)، ملجأ خوفي ومكمن قوتي في طفولتي، لأنه كان محصنا بحراس أشداء يمسكون اسلحتهم طوال الوقت، وبالقرب من القصر صفت مدافع وذخائر كروية الشكل، وكلما تحينت الفرصة كنت أقف على سطح القصر لأرى لون البحر وأمواجه المتلاطمة ورمال الصحراء التي تحيط ببيوتنا من كل الجوانب.

كان حبنا كأطفال للنخلة كبير وعميق فهي تشبه أمهاتنا، كانت تحنو علينا وتطعمنا وتستر أجسادنا. نستظل ونتعلق بها عندما يثور البحر لتحمينا منه بعد أخذه بيوتنا الصغيرة، وكانت والدتي رحمة الله عليها تجلس تحت النخلة لتحتمي بها من حرارة الشمس وربما كانت تشكو لها تعبها والآلام التي عانت منها بسبب تشقق قدميها التي لم تجد لها علاجا، وهذا حال الجميع في ذلك الوقت، فلا علاج ولا دواء لأمراض استعصى شفاؤها وقضت على من أصابتهم بالموت. كان مجلس منزلنا كبيرا يرتاده أناس كثيرون في صحبة والدي يتناولون معنا ما توفر من رزق الله، ومن بطن البحر الذي ارتدى عباءة الفقر مجبرا فأفقرنا معه، وكان الرجال أسياد البحر يصطادون منه السمك ويغوصون فيه بحثا عن اللؤلؤ، لقد شاء المولى سبحانه وتعالى امتحان مدى صبر الناس على البلاء لحكمة لا يعلمها إلا هو، فكسدت تجارة اللؤلؤ بعدانتاج اللؤلؤ الصناعي الأرخص ثمنا، وأصبح الجوع والبلاء لا يرحم صغيرا أو كبيرا.

وكان لكلام البحارة والغواصين بعد آخر ترصده عيونهم وآذانهم من البلدان التي يذهبون إليها، وكنت أسمعهم يتحدثون عن الحرب الدائرة في البلاد البعيدة (الحرب العالمية الثانية)، وعن بلد عربي سلبوا أرضه وشردوا أهله، وتمنيت رغم صغر سني أن أذهب اليهم وأساعدهم رغم أننا كنا في أشد الحاجة للمساعدة. وكانت أمي مثل نساء الحي الصبورات المكافحات المنتظرات عودة أزواجهن من رحلة الغوص، وكن يبحثن أو يحفرن الآبار من أجل الماء، وأتذكر اصطفافهن ذات مرة حول بئر قديمة يلقين بصفيحة معدنية مربوطة بخيوط من سعف النخيل، ويفرغن ما أحضرنه من ماء في حجلة (وعاء من الفخار لتبريد الماء) أو قربة سوداء مصنوعة من جلد الماعز. ولم يكن لدينا كأطفال شيئا نفعله سوى اللعب بالرمال وطين البئر ونصنع منه أشكالا والعابا مثل الحويم (لعبة خاصة بالذكور) وعربة الجريد، ونذهب لحفظ القرآن عند المطوع درويش.

شراسة العاصفة... ويتذكر الفهيم العاصفة التي أتت على جالبوت عمه (مركب للغوص والتجارة) والذي جلس مع عمه قرابة الشهرين يحاولان أصلاحه، وذات يوم سرقه النوم من شدة التعب، وأفاق على أصوات بكاء وعويل وسيل من المطر حجب عنه الرؤية، ورياح عاصفة، ثم غاصت قدماه في الرمال حتى وصلت الى خصره، وأخذته الرياح بأتجاه البحر فلم يجد سوى النخلة التي احتضنها طالبا حمايتها. واشتد صفير الرياح واضاء البرق المكان، وارتعدت أوصاله من شدة البرد، ثم هدأت العاصفة لساعة ثم عادت ثانية أقوى واشرس مما كانت، إلا أنه لم يترك أبدا النخلة التى لم يكن بها شيء يقتات منه ويسد به جوعه. وعندما لم تتوقف العاصفة بدأت قواه تنهار، لكن فجأة جاءت المشيئة وهدأت وبدأ البحر ينسحب، وسكت صوت البرق وعاد للسماء لونها الأزرق، ولكن بعد أن أخذ البحر معه منازل الحي، وهرعت إليه أمه التي كانت تبحث عنه لتضمه الى صدرها.

كنا نهرب من حر ورطوبة أبوظبي في الصيف الى واحة العين، وكانوا أسعد منا حالا واكثرنا فرحا. يحبون الحاكم بشكل كبير (المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان)، كان يمنح الناس بطيب خاطر كل ما معه، وكان يردد دائما أن الله وحده هو القادر على تغيير الأحوال، وكان الأهالي يصدقون كل كلمة يقولها، لثقتهم في إدراكه لمعاناتهم وامتلاء قلبه بهمومهم ومشاكلهم.

الفرح الاول

وفي العين شهدت الفرح الاول في حياتي، وكان زفاف أختي الكبيرة مريم، وفي الساحات رأيت سباق البوش والرزافة والنعاشات واليولة والعيالة على دقات الطبول، ونقلت أختي مع صديقتها العروس الأخرى ليزفا الى عريسين أخوين على الهودج ومعهما المندوس (صندوق خشبي مزخرف) وفيه ملابس وعطور العروس.

ويواصل الفهيم: وعاد أبي وأمي الى أبوظبي ثانية وتركوني في العين، حيث عشت سنوات في قصر الحاكم بصحبة ابنه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وهناك عرفت معنى السعادة والراحة، فقد عشت بينهم معززا مكرما، وقتها انشغل المغفور له بإذن الله الشيخ زايد ببناء سوق جديد لأهل العين تتوفر فيه كل احتياجاتهم من مواد غذائية وخضروات وفاكهة وغيرها، وشاهدت كيف كانت آمال الناس معلقة بقصر الحاكم.

قصر الحاكم

مرت خمس سنوات على بقائي في الواحة، كانت سنوات جميلة مازالت محفورة في ذاكرتي، لقد زرع المغفور له بإذن الله الشيخ زايد كل ما يمكنه زراعته وحصد كل ما تطاله كفاه لتقديمه بحب وطيب خاطر الى أهل الواحة الذين تغيرت أحوالهم الى الأفضل. اشتقت للعودة الى أبوظبي لأرى أمي وأبي، خاصة وكنت قد كبرت وشارفت على سن الشباب، وفي بداية دخولي أبوظبي مع القافلة شعرت أن المدينة تغيرت.

حيث بني جسر المقطع من الرمال والحصى ليعبر عليه الناس بدلا من انتظار الجزر ليعبروا ماء البحر، ورأيت سفنا كبيرة ترسو بالقرب من الشاطيء، وعرفت أن هناك غرباء أتوا للبحث عن البترول ويحفرون في كل مكان في البحر والبر وسيكون ظهور البترول هو الخلاص لنا من الفقر.

لقد انقلب حال صحرائنا من الصمت الى الضجيج الذي تصنعه صوت الحفارات في كل مكان، رأيت أشخاصاً يتحدثون لهجات عربية مختلفة، وشاهدت الإنجليز يجوبون الفريج بسيارات الجيب، وبدأ أهل أبوظبي يعملون معهم، إلا أنهم كانوا يتقاضون أجورا زهيدة أقل من الغرباء.

ظهور النفط

ويتذكر الفهيم ظهور النفط.. كان الوضع شبه ميئوس منه في مشيخة أبوظبي مع انهيار صناعة صيد اللؤلؤ بدءا من الثلاثينات وما بعدها، وكان بناء قصر الحاكم قد وفر إغاثة قصيرة الأمد من البطالة المزمنة والفقر الشديد، وجاءت أوائل الأربعينات وأهل أبوظبي أسوأ حالا، ولكن حين بوشرت أعمال استكشاف البترول بدأت الأمور تتحسن وخاصة مع اكتشاف النفط بكميات تجارية وتصدير أول شحنة في ديسمبر 1963 من حقل بري في (باب) بجبل الظنة.

كان كل ما يكسبه السكان المحليون الذين عملوا في شركات النفط قليلا، كما لم يتلقوا تشجيعا للعمل كموردين أو مقاولين لحساب شركات النفط كما حدث في السعودية، لهذا ينظر الأشخاص الى تلك الفترة بمرارة، كانوا يقبلون أي عمل، تنظيف، حراس وسائقين أو طباخين، وكانت الأعمال الأفضل للوافدين الهنود أو العرب من لبنان وسوريا وفلسطين.

وكانوا يتقاضون ثلاث روبيات يوميا، ويعانون من سوء الطعام والمعيشة، ومن يطالب بزيادة أجره يطرد من العمل أو يسجن، مما دفعهم الى الإضراب عام 1963م. ولكن بعد 3 سنوات في 1966م حين تسلم الشيخ زايد رحمه الله حكم أبوظبي، كان أول أعماله إعادة التفاوض على اتفاقيات الامتياز مع شركات النفط وتحسين شروطها، وإقناع الشركات بالشراء من السوق المحلية بدلا من الاستيراد من أوروبا، ومنذ ذلك الوقت بدأ التغيير.

إضاءة

محمد عبد الجليل الفهيم الرئيس الفخري لمجموعة شركات الفهيم، انخرط في العمل بمجموعة الشركات التي تملكها العائلة عقب الانتهاء من دراسته في بريطانيا عام 1968، وبمساعدة والده نجح في توسيع دائرة نشاطاتها مما ساهم في إنمائها لتصبح واحدة من كبرى المجموعات التي تمتلكها وتديرها إحدى العائلات في منطقة الشرق الأوسط.

وتضم المجموعة في الوقت الراهن العديد من الأنشطة في مختلف المجالات، فهناك الشركات التي تعمل في المجال العقاري والفنادق والسيارات والسفر وهناك من تعمل في مجال الصناعة والخدمات البترولية والدعاية والإعلان. كما أنه حاصل على جائزة الرئيس التنفيذي بمنطقة الخليج للعام 1995، وألف محمد الفهيم كتابه الأول وأسماه (من المحل إلى الغنى.. قصة أبو ظبي).

وكان باللغة الإنجليزية، كما ترجم ونشر#باللغات العربية واليابانية والفرنسية والأردية، ثم كتا''ب الدليل إلى البدء في مشاريع الأعمال بدولة الإمارات العربية المتحدة'' وتم نشره باللغتين العربية والإنجليزية، وكان الراوي لرواية ''زمن الصبر'' للكاتبة مريم الملا.
===========================



ليست هناك تعليقات: