١٤‏/٠٦‏/٢٠٠٨

بعد الحريق.. لا سلام ولا كلام




عبر الهاتف جاء صوت ابنها مذعورا ليسألها (أين أنت ؟) فأجابته: في المكتب، ولأنها شديدة القلق بشأن أولادها، سألته بلهفة: ماذا حدث هل أصبت بمكروه لاسمح الله؟ وما هذا الصراخ الذي أسمعه حولك ؟وازدادت ضربات قلبها وهي تعيد عليه السؤال، فرد عليها وتعمد تصنع الهدوء في صوته حتى لا يفزعها.
وقال لها لقد شب حريق في البناية وهرب الناس منه، وأنا الآن في الشارع، ثم حاول التقليل من الأمر قائلا: طلب الجيران الشرطة لتتولى الموضوع فلا تقلقي أنا بخير.
انتبهت زميلاتها في المكتب للمحادثة التي دارت مع ابنها، وسألن عما يحدث فأخبرتهن الخبر وطلبت من إحداهن إغلاق الكومبيوتر لأنها مضطرة للذهاب للاطمئنان على ابنها.. لم يستغرق وصولها إلى هناك إلا بضع دقائق، وعندما رآها بادرها بالقول: ألم أقل لك إن الأمر بسيط.. لماذا أتيت ؟
وقفت تنظر مع ابنها إلى الشقة التي التهمها الحريق، فقال لها: اشعر بالخوف على اللاب توب، فردت بحسرة وآسى، ليت الأمر كان على اللاب توب فقط، لقد صرفت معاشي بالأمس ووضعت كل نقودي في درج خزانة الملابس، وإذا حدث شيء لشقتنا لا قدر الله ستقضي النيران على فلوس إيجار الشقة وقد لا نستطيع دفعها وسيصبح الهم كبيرا.
وبسرعة البرق وجدت كماً هائل من البشر ومعظمهم بالطبع من الجنسية الآسيوية تركوا أعمالهم ووقفوا لمشاهدة ما يحدث في البناية، بدا القلق واضحا على السكان الذين تجمعوا حول البناية بعد أن منعتهم الشرطة من الاقتراب، وبدأ الفضول الصحفي يدق رأسها، فتركت ابنها داخل سياراتها التي أوقفتها بعيدا، وذهبت تسأل عن ملابسات الحادث، وكيف علم السكان بوجود الحريق ؟
لقد كان مشهدا لا ينسى، أطفال صغار يصرخون برفقة أمهاتهم، وآخرون التزموا الصمت ترقبا وخوفا من الآتي، ونساء هرعن إلى الشارع بملابس النوم يسألن الأخريات عن عباءات تستر أجسادهن، وممرضة أصيبت بالفزع عندما عادت من عملها ورأت تلك الجمهرة من البشر، وسألت الشرطي أن تصعد إلى شقتها لإحضار أطفالها الصغار والتي اعتادت أن تتركهم نائمين لحين عودتها من العمل، وامرأة أخرى تذكرت فجأة وبعد أن هبطت ثمانية أدوار وخرجت إلى الشارع أنها نسيت ابنتها الصغيرة في الشقة، فأخذهما رجال الشرطة وصعدا بهما لإحضار أطفالهن.
سألتها جارتها أن تعيرها هاتفها لتتصل بزوجها في العمل لتخبره بما حدث، وبعد أن أنهت المكالمة قالت لا أدري لقد كنت نائمة مع ابنتاي وفجأة سمعت طرقا عنيفا على الباب، والجارات يصرخن بمختلف اللغات واللهجات (حريق ـ حريق ـ أخرجوا من شققكم).
فأخذت البنتان وأطلقت ساقاي للرياح ونزلت على السلالم بعد أن أعمانا دخان الحريق وتيقنت أن هناك عطبا في جهاز إنذار الحريق في البناية لأنه لا أحد من السكان سمعه، بل اعتمدوا على تنبيه بعضهم البعض بالدق على الأبواب.
وخلال دقائق معدودة تم قطع الكهرباء والغاز عن البناية، وآتت سيارات الدفاع المدني والإسعاف وتم إطفاء الحريق، وتجمع سكان البناية الذين ربما لم يعرفوا بعض من قبل، ولم يتحدثوا ولو لمرة واحدة طوال السنوات التي جمعتهم فيها الجيرة، الا أن هذا الحادث جمع بينهم وجعلهم يتجاذبون أطراف الحديث، وعلى السلالم لم تنقطع ثرثرتهم وأحاديثهم التي اختلطت فيها اللغة العربية بالأوردية والهندية والفلبينية والإنجليزية، وبعد هذا اليوم المشهود عاد سكان البناية لسابق عهدهم فلا كلام ولا سلام بينهم.
===============================================

ليست هناك تعليقات: