٠٨‏/٠٣‏/٢٠٠٩

عبق الذكريات يفوح بالحنين عبر أحاديث الجدات


لم يكن الماضي تعيساً كما يعتقد هذا الجيل، فرغم صعوبة الحياة وشظف العيش، إلا أن أبناء هذا الزمن الذين يعيشون أيضا الحاضر بكل جماله ووفرة خيره يتذكرون الماضي بكل جماله مطلقين على تفاصيله حكايات الزمن الجميل.
وهذا ما أكدت عليه الجدات اللواتي جلست معهن لنتناول «الريوق» ليتحدثن عن بساطة الحياة، وكيف استطعن التغلب على نقص الموارد وقلة فرص العمل، والعلاقات الاجتماعية المتينة بين كافة أفراد الفريج، وبيوتهم القديمة المصنوعة من سعف النخيل والسدو، وكيف كان يعيش أفراد العائلة الكبيرة الممتدة في بيت واحد متحابين؟ ومساعدة الله سبحانه وتعالى المرضى على الشفاء دون دواء وأطباء، ومعايير اختيار الأم لزوجة ابنها، وحب تلك الزوجة لحماتها والتي تعتبرها في منزلة والدتها، والأعباء التي كانت تتحملها جدتنا الإماراتية التي ساعدت رجلها بقوة من أجل العيش وتربية الأبناء، وكيف كانت تتعامل الزوجة مع زوجها وتعمل على تدليله بكلمات الحب والدعوات؟
تتباهى آمنة يوسف بن سعيد النعيمي بأنها حفظت القرآن الكريم وختمته مما أهلها بعد ذلك لأن تقوم بدور المطوعة تحفظ أولاد وبنات الفريج القرآن الكريم، كما أنها شاعرة تقرض الشعر الشعبي وتستطيع أن تنظم أبيات القصيدة في الحال ودون تفكير مسبق، ويأتيها الوحي حسب انفعالها بالحدث الذي تراه أو تعيشه وتقول: كان الخير زمان قليلا، مما اضطرنا للعيش على حد الكفاف، إلا أن جيل الماضي كان قنوعا بما هو موجود فلا حيلة له ولا يمكنه تغيير الواقع، لذلك بارك الله سبحانه وتعالى في القليل وجعلنا سعداء به، وكان والدي يعمل في صيد الأسماك، تلك المهنة هي التي تلت مهنة صيد اللؤلؤ في الأهمية، و كان والدي يغيب بالشهور في رحلات الصيد في البحر وقامت والدتي بدور مزدوج داخل الآسرة، دور الأم والأب في آن واحد.
حياة بسيطة
وتقول خديجة مبارك السعدي: كانت الحياة بسيطة جدا وجميعنا نعرف بعضنا البعض، وامتازت العلاقات الاجتماعية بيننا بالقوة والمتانة، ومن معه يعطي من ليس لديه شيئا، ونتكاتف معا في الفرح والحزن، عشنا في بيوت من العشيش وهي دور مصنوعة من سعف النخيل والحصر، وهي بيوت صيفية تناسب طبيعة الجو الحار ويأتينا البراد فيها من خلال البراجيل، وننتقل منها في الشتاء إلى بيوت من الخيام المصنوعة من السدو المغزول من الصوف وهي أكثر دفئا من العشيش وتحمينا من الأمطار والرياح وغيرها من تقلبات فصل الشتاء.
وتؤكد موزة خميس الرميثي على الدور الهام الذي لعبته الإماراتية في الماضي قائلة: يقع على عاتق المرأة كافة الأعمال المنزلية، فبنت الإمارات التي تتباهى اليوم أنها تعمل وتساعد الرجل ماديا لم تأت بشيء جديد، فقد عملت جدتها بجانب زوجها لتساعده على المعيشة، وعانى الأجداد من قلة فرص العمل التي تواجدت فقط في استخراج اللؤلؤ وصيد الأسماك مما تطلب غياب الزوج عن بيته بالشهور تعرض فيها الى أحوال البحر ومخاطره.
وقد يعود أو لا يعود، كذلك عمل الرجل في الزراعة وجلب التمور من على النخيل لإطعام عائلته أو بيعه ليكسب به قوت يومه، أو كان يعمل في رعي الأغنام والإبل، ولم يكن لدينا هذا التقدم والعمران الذي يشمل كافة أنحاء الإمارات اليوم ولم تتعلم المرأة ولم تجلس طوال يومها أمام جهاز الكومبيوتر، بل كانت تكد وتكدح وتصحو من نومها مبكرا قبل أذان الفجر تطبخ الطعام لعائلتها، وتنظف البيت بيدها دون مساعدة البشاكير.
فلم يكن هناك خدم يقومون عنا بتلك الأعباء، وتطعم البقر وتنظف الحظيرة، وتحلب الحليب وتصنع منه السمن والجبن وغيرها أيضا ليأكل منه أفراد الأسرة وتبيع ما تبقى منه للأنفاق على احتياجات العائلة، ولم يكن لدينا مراكز تجارية لبيع الملابس وغيرها، بل دكاكين صغيرة تبيع بعض المؤن الغذائية، أو الأقمشة،وكانت المرأة تحيك جميع ملابس العائلة،وتصنع بنفسها التلي، وتصنع أدوات للمنزل من شعف النخيل ليأكل أفراد الأسرة عليها أو لفرشها في الأرض أو لتغطية الطعام،وتبيع ما يتبقى أيضا.
التدليل بين الأزواج
وتضيف خديجة: وكان الرجل مدللا من زوجته، توقظه من النوم وهي تدعو له بالصحة وطول العمر، وتقول له: « قم يا الغالي فديتك يا بعد عمري» وتودعه للذهاب الى عمله: «حفظنك الله يا الغالي» وقبلها تغسل الإبريق وتحضر له المياه ليتوضأ ويصلي، وفي الليل وبعد أن يعود مرهقا من عمله تحضر له الماء الدافئ المملح قليلا ليضع فيه أقدامه، ثم تجففها بنفسها وتقوم بتدليكها بالزيت ثم تحضر له الريوق وتظل واقفة إلى أن ينتهي من طعامه ليغسل يده ثانية وهي تصب الماء على يده من الإبريق ثم «تمشمشه» أي تمسك بالمحرمة وتنشف بها وجهه.
كذلك كان الرجل يعاملها برفق وحنان ويطري عليها، ونادرا ما «يحمق الريال ويضارب حرمته» إلا إذا لم تأخذ بمشورته، أو ما تحترمه، أو طلعت من البيت بغير علمه، و نصحو من نومنا قبل أذان الفجر وننام بعد آذان العشاء مباشرة، وحتى إذا تزوج الرجل بامرأة ثانية أو ثالثة يعيش الجميع في بيت واحد متحابات ويعاملن الأبناء جميعا وكأنهن أم واحدة، فلا واحدة منهن تفرق بين أولادها وأولاد زوجها من المرأة الأخرى حتى أن الأبناء أنفسهم لا يعرفون في صغرهم من هي الأم الحقيقية لهم، ولم تكن لدينا أية وسائل للترفيه، وتسلية النساء الوحيدة كانت في طحن الغلال بالرحى أو دق الحب للهريس أو الخياطة وعمل التلي وهكذا.
فنون الطب
تقول ميرا عبيد مصبح المنصوري: لم يكن لدينا مستشفيات أو أطباء، وكان من يمرض يعالجونه بالأعشاب الطبيعية، ومن تكسر قدمه أو يده يجبرونه بمعجون من شجر السدر والكركم والزيت الذين يدقونه في المنحاس، ثم يضعونه على النار لطبخه، ثم يضعوه على مكان الكسر ويربطوه، ومن يعاني من القيء نقول إنه مصاب بالكبد فيقومون بإجراء «مساج خفيف» باليد لمنطقة الكبد يوميا حتى يخف وهكذا كان الله سبحانه وتعالى يساعد النساء على الشفاء دون أطباء أو دواء، ولم تكن لدينا أمراض كالتي نسمع بها الآن، فغذاؤنا طبيعي من خير الأرض لم يكن مخلوطا بالكيماويات التي تسبب مرض السرطان، والموت كان قليلا فربما في العام الواحد نسمع عن امرأة أو رجل عجوز قد ماتوا، أما الآن فحوادث السيارات تحصد أرواح كثيرة في العام الواحد.
وتؤكد موزة محمد المنصوري أن الحاضر جميل وبه خير كثير إلا أن الماضي أيضا كان جميلا وبارك الله لنا فيه فتقول: كانت الناس أكثر تعاونا وحبا لبعضهم البعض،كما أنهم كانوا أكثر ترابطا،وكنا نعيش جميعا في بيت واحد الأب والأم وأولادهما وأحفادهما، وسادت علاقات الهدوء والاحترام والحب المتبادل بين الحماة وزوجات أولادها جميعا، فلم نسمع يوما أن تحكمت العمة في زوجة ابنها أو عاملتها بطريقة سيئة، وكانت زوجة الابن مطيعة لحماتها، تعمل على راحتها وتتعلم منها الكثير بشأن الطهي والاهتمام ببيتها وزوجها وأولادها، وكانت عمتي «حماتي» بمثابة والدة ثانية لي،عشت معها وكأنني في «الجنة» فلم أر مثل طيبتها في حياتي، لكن العلاقات بين الحماة وزوجة أبنها تغيرت الآن وكثيرا نجد الشكوى من كلاهما تجاه الأخرى.
وهناك مشاكل كثيرة في البيوت بسبب بغض زوجة الابن لحماتها، فالزوجة تلجأ لزوجها وتخبره أن أمه قد تحدثت عنها بالسوء وتتحسس الأم من كلام كنتها، فتصب جام غضبها على ابنها وتتهمه بأنه يستمع إلى كلام زوجته ويكذب أمه التي ولدته من بطنها وربته وتعبت من أجله،وتصر الزوجة أن حماتها أهانتها، كذلك الحماة تصر أن زوجته هي التي بدأت بالخطأ ويضيع الرجل بينهما ولا يعرف كيف يرضيهما، ويظل في معارك دائمة تعكر عليه صفو حياته وتجعله حائرا بين الاثنتين.
لا وجود للغيرة
وتواصل موزة: لم تكن الأم في الماضي تشعر بالغيرة من زوجة ابنها، ولم تعتقد يوما أنها جاءت لتأخذ منها أبنها، ولم تكن زوجة الابن تعتبر كلام الأم النابع من خبرتها الطويلة مجرد كلام فارغ من الزمن الماضي الذي يعد متخلفا بالنسبة للحاضر الذي نعيشه الآن،وترفض أن تتدخل الحماة في أمور المنزل، أو تربية الأطفال، وقد تفتعل الزوجة مشاكل دائمة مع أم زوجها دون سبب ولكن من اجل الخروج من بيت العائلة الكبير الى بيت منفصل، وقد يكون الابن شديد الانفعال تجاه أحدهما فيعنف زوجته مثلا ويتعارك معها، أو يعنف أمه ويبغض تدخلها بدون قصد في حياته، وهذا لا يمنع من وجود رجال يتفهمون تلك المشاكل ويحاولون التوفيق بين الطرفين ويشجع كلاهما للتعامل مع الأخرى بالحسنى.
وتتحدث شيخة عبيد الظاهري عن طريقة الزواج في الماضي قائلة: كانت الأم هي التي تخطب لأبنها، ولم يكن الابن يرفض اختيار أمه مطلقا، فتذهب لزيارة بيوت الفريج لترى البنات التي يقع اختيارها على واحدة منهن وفقا لمعايير معينة مثل مهاراتها في القيام بكافة شئون المنزل بجانب جمالها، ثم تذهب لتخبر ابنها بأنها اختارت له عروس وتعدد له صفاتها الجميلة، ثم تطلب الأم يد الفتاه من والدتها، فترد والدة الفتاة بأن تمنحها فرصة لمشاورة والد الفتاة في الأمر، ثم يطلب والد العروس من لأهل بالسؤال عن العريس وأهله إذا لم يكنوا معروفين جيدا لهم،وعندما يأتيه الخبر بأن العريس شاب «زين» يشتغل ومن قبيلة معروفة يتم الزواج فورا دون مشاورة الفتاة والتي غالبا تكون في عمر 15 سنة تقريبا، وهذا هو السن المعروف للزواج في ذلك الوقت فلم تكن الفتاة تذهب الى التعليم في الجامعة أو تسعى للعمل مما يجعلها تتجاوز الثلاثين دون زواج كما هو موجود الآن.
وكان تحديد مهر العروس متروك لوالدها، وكانت الألف روبية مبلغ كبير يدفعه العريس مهرا لعروسه، أو عدد من رؤوس الأغنام أو الجمال على حسب التراضي، وأحيانا لا يطلب والد العروس مهرا لأبنته، ويقدم العريس لعروسه ذهب مثل المرية وأبو شغاف وختوم وملافت «أساور في اليد»، و«الزهبة» جهاز العروس تعني ذهب العروس والملابس والعطور إضافة الى الاحتياجات الأساسية والتي تسمي «المير» كالأرز والطحين والسكر والشاي وبعض المواد الغذائية، وقبل الزفاف تجلس النساء من أهل العروس أو جيرانها لمساعدة الأم في حياكة ملابس العروس،كذلك تجهز العروس قبل الزفاف بدهن جسمها بالنيل الأزرق المخلوط ببعض الأعشاب، اما وجه العروس فيدهن ب«الورس»وهو نبات عشبي ضارب في الصفار يمنح البشرة نعومة وطلاوة، وتحنى العروس في كف يدها وأرجلهانثم تقام الأحتفالات للزفاف، وقبلها يعقد القرآن وهو مايسمى «بالملكة».
لقمة هنية
تقول آمنة يوسف النعيمي: تعددت طرق صيد السمك فمنها بالشباك «تسمى ليخ»، والصيد بالحضرة، والصيد بالقرقور«الخطاف»، بجانب الحداق بواسطة الميدار«السناره»، والصيد بالإضاءة حيث يتجمع السمك حول سراج يحمله الصياد فيقوم الصياد بضربة بآلة حادة كالسيف أو عصا في نهايتها حربة، والسمك هو الطعام الرئيسي لمعظم العائلات الإماراتية في ذلك الوقت، نأكله مرتين في اليوم مع العيش«الأرز» والتمر، ويأتي بعده الدجاج الذي تربيه المرأة داخل المنزل، أما اللحم نأكله في الأعياد والمناسبات عندما يقوم فقط القصاب بالذبح.
أما « الريوق» الإفطار فهو من الخبز والتمر والعسل والبيض أو الرقاق والخمير، والعشاء من نفس طعام الغداء من المكبوس والمالح «السمك المجفف» أو مطبق السمك وهو ما يطلقون عليه الآن «البرياني»، والعرصية وهي من الدجاج والأرز المطحونين بدقة،وكنا نأكل الغداء وما يتبقى منه نضعه في التنور«الفرن المدفون في الأرض» وهذا يساعد على الاحتفاظ بحرارته حتى نأكله في المساء، و يحافظ عليه من التلف فلا يخرب ولا نستطيع أكله ثانية، لأنه لم يكن لدينا كهرباء ولا بردات تمكنا حفظ الطعام،وأما الحلو الأول والمتواجد دائما هو التمر، بجانب الخبيص والبلاليط، والبثيث المصنوعة من التمر والطحين، والقرص.

===========

ليست هناك تعليقات: